المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غرفة الأحزان ..!


دعاء 27
03-11-2016, 10:21 PM
http://www.forum.topmaxtech.net/mwaextraedit4/extra/98.gif






قصة واقعية ؛ للكاتب المتميز
مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله




كان لي صديق أحبه لفضلة وأدبه ؛
فكان يروقني منظره ويؤنسني محضره قضيت في صحبته عهداً طويلاً .! ،
ما أُنكِر من أمره ولا يُنكر من أمري شيئاً حتى سافرت من القاهرة سفراً طويلاً ،
فتراسلنا حِيناً ثم انقطعت عني كتبه فـ رابني من أمره ما رابني ثم رجعت
فجعلت أكبر همي أن أراه ، فطلبته في جميع المواطن اللتي كنت ألقاه فيها فلم أجده !!

فذهبت إلى منزله‘فحدثني جيرانه أنه هجره منذ عهد بعيد ، و أنهم لايعرفون أين مصيره !
فوقفت بين اليأس والرجاء برهة من الزمان ,يغلب أولهما ثانيهما حتى غلبه ،
فأيقنت اني فقدت الرجل ، و أني لن أجد بعد اليوم سبيلاً ..!

هنالك ذرفت من الوجد دموعاً لايذرفها إلا مَن قلَّ نصيبه من الأصدقاء ,
وأقفرَّ ربعه من الأوفياء ، وأصبح غرضاً من غرض الأيام لا تُخطئه سهامها ولاتغبّه آلامها ..!

بينما أنا عائد إلى منزلي في ليلة من الليالي السرار إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام
المدلهم إلى زقاق موحش مهجور ؛ يُخيل للناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه
مسكن الجان أو مأوى الغيلان ، فشعرت كأني أخوض بحراً أسود ، يزخر بين جبلين
شامخين ، وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر وترتفع وتنخفض ، فما توسطت لُجَّته حتى سمعت في
منزل من تلك المنازل المهجورة أنّة تتردد في جوف الليل ، ثم تلتها أختها ثم أخواتها ؛
فأثَّر في نفسي مسمعها تأثيراً شديداً و قلت :
يا للعجب ؛كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين ، وخفايا المحزونين ؟ ،
وكنت عاهدت اللّه قبل اليوم ألا أرى محزوناً حتى أقف أمامه وقفة المساعد إن إستطعت أو وقفة الباكي إن عجزت ؛
فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته ، فطرقت الباب طرقاً خفيفاً فلم يفتح ،
فطرقته أخرى طرقاً شديداً ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها ، فتأملتها على ضوء المصباح
الضئيل الذي في يدها ، فإذا هي في ثيابها الممزقة ،كالبدر وراء الغيوم المتقطعة ، وقلت لها :
هل عندكم مريض ؟
فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها ، وقالت :
أَدرك أبي أيها الرجل ، فهو يعالج سكرات الموت ..! ،
ثم مشت أمامي فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير
مسنم ، فدخلته فخُيَّل إليّ أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات ، وأن الغرفة قبر ،
والمريض ميت فدنوت منه حتى صرت بجانبه ،
فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الرياح في برج خشبي ،
فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي ،
ثم فتح شفتيه قليلاً قليلاً وقال بصوت خافت :
( الحمد لله فقد وجدت صديقي )
فشعرت أن قلبي يتمشى في صدري جزعاً وهلعاً ، وعلمت أني قد عثرت بِضالتي التي أنشدها ؛
وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء ، وعلى باب القضاء ،
وألا يجدد لي مراّها حزناً كان في قلبي كميناً ، وبين أضلعي دفيناً .. ! ،
فسألته ما باله ؟ وماهذه الحال التي صار اليها ؟
وكأن أنسه بي أمد مصباح حياته الضئيل بقليل من النور فأشار إلي أنه يحب النهوض ،
فمددت يدي إليه ، فـ اعتمد عليها حتى أستوى جالساً ؛
و أنشأ يقص علي القصة الآتية :
منذ عشر سنين كنت أسكن أنا و والدتي بيتاً يسكن بجانبه جار لنا من أرباب الثراء والنعمة ، وكان قصره يضم بين
جناحيه فتاة ما ضمَّت القصور أجنحتها على مثلها حسناً و بهاءاً ، و رونقاً وجمالاً ، فألمَّ بنفسي من
الوجد بها ما لم أستطع معه صبراً ، فمازلت بها أعلجها فتمتنع ، وأستنزله فتعتذر ، و أتأتى إلى قلبها
بكل الوسائل فلا أصل اليه ، حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج فانحدرت منه اليها ، فسكن
جماحها ، وأسلس قيادها ، فسلبتها قلبها وشرفها في يوم واحد ، وماهي إلا أيام قلائل حتى
عرفت أن جنيناً في أحشائها يضطرب ، فأسقط في يدي ، وطفقت أرتئي بين أن أفي لها
بوعدها أو أن أقطع حبل ودها ، فاّثرت أخراهما على أولاهما ، وهجرت ذلك المنزل الذي
كنت أزورها فيه ، ولم أعد أعلم من أمرها شيئاً .

مرت على تلك الحادثة أعوام طوال و في يوم من الأيام جاءني منها مع البريد هذا الكتاب ،
ومد يده تحت وسادته وأخرج كتاباً بالياً مصفراً ، فقرأت فيه ما يأتي :
" لو كان بي أن اكتب إليك لأجدد عهداً دارساً ، أو وداً قديماً ؛ ماكتبت سطراً ، ولا
خططت حرفاً ، لأني لاأعتقد أن عهداً مثل عهدك الغادر ، و وداً مثل ودك الكاذب ؛ يستحق
أن أحفل به فأذكره ، أو اّسف عليه فأطلب تجديده .
إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي ناراً تضطرم ، و جنيناً يضطرب ، تلك للأسف على الماضي ، و ذاك
للخوف من المستقبل ، فلم تبال بذلك مني حتى لا تحمل نفسك مؤونة النظر إلى شقاء أنت
صاحبه ، ولاتكلف نفسك مسح دموع أنت مرسلها ، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك
رجل شريف؟
لا .. بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان ؛ لأنك ما تركت خلة من الخلال
المتفرقة في نفوس العجماوات أو أوابد الوحش إلا جمعيها في نفسك وظهرت بها جميعاً في
مظهرٍ واحد ..!
كذبت علي في دعواك إنك تحبني ، وماكنت تحب إلا نفسك ، و كل
مافي الأمر أنك رأيتني السبيل إلى إرضائها ، فمررت بي في طريقك اليها ، و لولا ذلك
ماطرقت لي باباً ، ولا رأيت لي وجهاً ..!
خُنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفتَ وعدك ؛ ذهاباً بنفسك أن تتزوج إمرأة ساقطة مجرمة ،
وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا صنعة يدك و جريرة نفسك. ،
لولاك ماكنت مجرمة ولا ساقطة ، فقد دافعتك جهدي حتى عييت
بأمرك ، فسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير بين يدي الجبار الكبير،
سرقت
عفتي؛ فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب ، أستثقل الحياة وأستبطىء الأجل ، و أي لذة في
العيش لإمرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لِرجل ، ولا أماً لِولد ، بل لاتستطيع أن تعيش في أي
من المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها ، مُسبلة أجفانها ، واضعة خدها على كفها ،
ترتعد أوصالها وتذوب أحشاؤها ؛ خوفاً من عبث العابثين وتهكم المتهكمين ..!
سلبتني
راحتي لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت
متمتعة فيه بِعشرة أمي و أبي ؛ تاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغيد إلى منزل
حقير في حي مهجور لايعرفه أحد ، ولا يطرق بابه أحد ؛ لأقضي فيه الصبابة الباقية لي من أيام
حياتي.
قتلت أمي و أبي ؛ فقد علمت أنهما ماتا ، وما أحسب موتهما إلا حزناً لِفقدي ، و يأساً من لقائي ،
قتلتني لأن ذاك العيش المرّ الذي شربته من كأسك ، و الهم الطويل الذي علجته بسببك ، قد بلغا مبلغهما
من نفسي وجسمي ، فأصبحت في فراش الموت كالذبالة المحترقة
تتلاشى نفساً في نفس ،
و أحسب أن الله قد صنع لي ، واستجاب دعائي ، و أراد أن ينقلني من دار
الموت و الشقاء إلى دار الحياة والهناء ،
فأنت كاذب خادع ، و لص قاتل ، ولا أحسب أن اللّه
تاركك دون أن يأخذ لي بحقي منك !!!

ماكتبت إليك هذا الكتاب لأجدد بك عهداً ، أو
أخطب إليك وداً ، فأنت أهون علي من ذلك !
إنني قد أصبحت على باب القبر و في موقف وداع
الحياة بأجمعها خيرها وشرها ، سعادتها وشقائها ، فلا أمل لي و دولاً متسع لِعهد ،
وإنماكتبت إليك لأن لك عندي وديعة وهي فتاتك , فإن كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك
أبقى لك منها رحمة الأبوة فأقبل إليها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبل "

فما أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت إليه فرأيت مدامعه تتحدر على خديه فسألته :
وماذا تم بعد ذلك ؟
قال : إني ماقرأت هذا الكتاب حتى أحسست بِرعدة تتمشى في جميع أعضائي ، و خُيّل إلي
أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزناً و جزعاً ! ـ
فأسرعت إلى منزلها الذي تراني فيه الآن
، فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها ، و رأيت فتاتها إلى جانبها
تبكي بكاءً مرَّاً فصعقت لهول مارأيت ، وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي
وحوش ضارية ، وأساود ملتفة ، هذا ينشب أظافره و ذاك يحدد أنيابه ،
فما أفقت حتى عاهدت اللّه ألا أبرح هذه الغرفة التي سميته غرفـة الأحـزان حتى أعيش فيه عيشها وأموت
موتها ! ـ وها أنذا أموت اليوم راضياً مسروراً ،

وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى انعقد لسانه و اكفهر وجهه وسقط على فراشه
، فأسلم الروح وهو يقول : " إبنتي يا صديقي "

فلبثتُ بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه ، ثم كتبت إلى أصدقائه
فحضروا تشييع جنازته وما رُئيَ مثل يومه كان أكثر باكية وباكياً ولما حثونا التراب
فوق ضريحه جزعنا ولكن أي ساعة مجزع !!!
.
.

فـ يا أقوياء القلوب من الرجال ؛
رفقاً بِضعاف النفوس من النساء ..!!!



http://akhawat.islamway.com/forum/uploads/post-20628-1188725938.gif